الخميس، 12 فبراير 2015

دومانيات


1/
أثناء زيارة قمت بها لصديق بمدينة دوما، وفي الليل ونحن نشرب الشاي في مكتبته المغلقة بسبب إضراب عام، أذاع الجامع أسماء شهداء ذلك اليوم في المدينة، توقف صديقي وهو يتنهد ويغالب البكاء بعد أن سمع اسم زميله في الدراسة، من بين الأسماء التي استشهدت.
بعدها بدقائق بدأت التكبيرات، وسرعان ما انطلقت مظاهرة أمام الجامع الكبير، خرجنا متجهين للمظاهرة وفي الطريق أخبرني صديقي عدة تعليمات، أن لا أصور وجه أحدهم أن لا أنظر بوجهه مطولاً.. الخ، وصلنا وهتفنا مع المتظاهرين وصفقنا وشتمنا الأسد وشبيحته، أخرجنا ما اعتمل بداخلنا بصوت عالي وجماعي وكأننا ننتقم للشهداء.
في طريق العودة كنت أقول له لماذا أنتم الدوامنة أجسادكم صغيرة؟ كنت أتخيلكم عمالقة لكثرة ما سمعت عنكم ومراجلكم، وهو يضحك ويقول المراجل بالقلوب وليست بالأجساد.
وبعد أن اجتزنا سجن النساء المحترق، متجهين لدوار البلدية وبمحاذاة حائط المستشفى، سمعنا صوت فرقعة عالي ورأيت لمعة على الرصيف، اعتقدت أن شيئاً انفجر في حاويات القمامة التي أحرقها الشباب، وجعلوا منها حواجز أمام عناصر الأمن والشبيحة، وبأن الضوء الذي لمع هو انعكاس لما انفجر بداخل الحاويات، وقفت أنظر للخلف حتى سحبني صديقي وأجبرني على الجلوس، جلست القرفصاء معه وعلمت أن أحد جنود النظام استهدفنا برصاص بندقيته، وأن ما لمع على الرصيف الرصاصات التي لم تصبنا، وليس انعكاس الضوء.
للحظة تسائلت" هل سأموت!؟" في حين راح الشباب الذي شكل حاجز بين قوات النظام والمظاهرة، يصرخون من خلف الجدار ويشتمون المجند لإلهائه عنا.
بمحاذاة الجدار وتحت جنح الظلام انطلقنا نركض بسرعة ورؤسنا وأجسادنا محنية، حتى دخلنا سجن النساء المهجور، قفزنا ما بين غرفة الكهرباء وجدار السجن من مساحة ضيقة إلى الشارع الخلفي، ومن خلف حاويات القمامة عدنا للمتظاهريين الذين استقبلونا باللوم على ذهابنا بهذا الشكل.
لاحقاً أصر صديقي على الذهاب إلى منزلهم في شارع الكورنيش من طريق آخر، فقلت له يبدو أن هذا الطريق أكثر خطورة من سابقه لن أدخل به، وأثناء تحدثي معه بدأ أحد الجنود بإطلاق الرصاص على الواقفين في أول الطريق بمحاذاتنا، فنظرت له وعيناي تقولان: ألم أقل لك!
عدنا إلى المنزل من طريق آخر ملتوي وبعيد، وصلنا حيث كانت الكهرباء مقطوعة وأشعلنا الصوبيا لتقينا البرد وجلسنا بجوارها على ضوء الشمعة، تحدثنا كثيراً ثم مارست هوايتي وقرأت فنجانه، لكني لم أقل له أنك ستنتقل للعيش في روسيا! كان فنجانه أيضاً يتحدث عن سقوط الأسد.


2/
في الشهر الخامس من العام 2011 كنت سجيناً بفرع أمن الدولة كفر سوسة، ومن بين السجناء كان هناك رجل خمسيني يكنا" أبو خالد" ينحدر من مدينة دوما، أبو خالد ناصري الهوى مهندس ألقي عليه القبض كمتظاهر، وبالرغم من عمره ومكانته إلا أن العسكر مارسوا بحقه الضرب والتعذيب بقصد إذلاله؛ خرجت من المعتقل وبعد فترة طويلة كنت في زيارة لمدينة دوما، وأثناء حديثي مع صديق عن أمن الدولة تذكرت أبو خالد، حصلت على رقمه في حينها وأتصلت به على الفور، تحدثت معه لدقائق وطلبت رؤيته، فأعتذر لأنه مشغول ولا يستطيع رؤيتي بعد أن تذكرني على الفور وسألني قبل ذلك أين أنت الآن؟!
بعد أقل من ربع ساعة اتصل بي رقم لا أعرفه، رددت فسمعت صوت رجل يطلب مني الخروج من مكاني إلى الشارع، خرجت لأجد سيارة واقفة بمحاذاة الرصيف، طلب مني السائق أن أركب معه فركبت، وانطلقت السيارة مسرعة بشوارع دوما، وبحسب ما أذكره أننا نزلنا وصعدنا بسيارة أخرى، انطلقت السيارة الأخرى لمسافة زمنية قصيرة قبل أن تتوقف ويصعد أبو خالد، والذي بادرني بالإعتذار لأنه مطارد ولابد له من التأكد، ليس مني إنما من أنه لا يتم استخدامي كطعم من قبل الأمن السوري كعادته، فأجبته بأن قلقه مبرر وأنا أرد على ترحيبه الحار، ذهبنا لبيت في المدينة وجلسنا نتحدث عن ذكريات الفرع المؤلمة ونتبادل أخبار بقية السجناء، جلسنا لما يقارب الساعة، وقبل أن أغادر اعتذر أبو خالد لأنه لم يقدم لي شيئاً كضيافة، وشرح لي أن منزله الحقيقي مراقب وبأن هذا المنزل البعيد عن الشبهات ليس له، بعدها كنت أتتبع أخبار أبو خالد، فعلمت أن أبنه خالد طالب كلية الطب والذي لا أعرفه ولم يسبق لي أن ألتقي به، قد اعتقل!


3/
بعد مظاهرات دوما التي قابلها النظام السوري بالعنف والرصاص الحي، ظهر الجيش الحر والذي حرر المدينة في بدايات العام 2012، فخرجت أكبر المظاهرات في المدينة والتي قدرت بمئتي ألف متظاهر بحماية الجيش الحر، بعد تلك المظاهرة زارني صديقي الدوماني حيث كنت أسكن بمزة جبل في دمشق، وأخبرني أنها حررت بالكامل ودعاني لزيارتها، والحقيقة التي كنت أعرفها أن النظام سيحاصرها قريباً، وبأن دخولي لها في ذلك الوقت يعني البقاء بها محاصراً لفترة طويلة، لذلك لم أذهب.
فيما بعد قامت عناصر النظام بحصار المدينة وترافق ذلك مع قطع الكهرباء والسلع الغذائية عنها، ولاحقاً أصبح أبناء دوما يأتون إلى دمشق ليشتروا الخبز ويعودون إليها بين البساتين والطرق الملتوية.
في سرفيس دوار شمالي والذي يمر بمحاذاة مخابز ابن العميد، صعد أحد أبناء المدينة يحمل معه ربطات من الخبز، دار حوار سريع بيني وبينه، وسألته عن صديقي الذي لم أستطع محادثته عبر الهاتف بسبب غياب شبكة الاتصالات، فقال أنه يعرفه، وبدوري أرسلت له الكثير من السلامات وأن يبقى بخير.


4/
في باريس قالت لي فتاة إيطالية" دوماني" والتي تعني" نلتقي غداً" بلغتها، علقت الكلمة بذهني على غير عادتي في سماع الكلمات الأجنبية، لاحقاً صرت أردد لها ذات الكلمة" دوماني" عند رؤيتها، دون أن أخبرها أن دوماني في سوريا لها معنى آخر، دوماني تعني ذلك الشاب الشهم والذي لا يصبر على الظلم ورؤيته، الشاب المنحدر من المدينة التي تغنا بأمجادها العرب بعد أن وقفت في وجه الاستعمار وبقيت شوكة في حلقه، دوما ذاتها التي تباد اليوم لأنها وقفت أمام طغيان وتجبر النظام الأسدي، وصارت شوكة في حلقه.


الحوار المتمدن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زوجات البغدادي على قناة العربية.. بتوقيت غزة!

  نشرت قناة العربية مقابلة مع زوجتي أبو بكر البغدادي وابنته، اللاتي حالفهن الحظ بأن لا يكن معه عندما قتل. كما أعادت مقابلة زوجة البغدادي الأ...