بين الرقة وباريس
كنت أسافر
من السعودية إلى مدينة الرقة شاعراً بالفرح، حيث المدينة التي تشكل العشائر المكون
الرئيس من قاطنيها، ولا تلعب الهوية الدينية جزءاً واضحاً من تركيبتها الثقافية،
فالعشائر تتفاخر بإكرام الضيف ومضافاتها المفتوحة، والقهوة التي تقدم للضيوف،
والأنساب، والشعر النبطي، وأمور ترتبط بمثيولوجيا القبيلة البعيدة عن آيدلوجيا
الدين، فلا" شرطة دينية" هناك كالسعودية، ولا محال تغلق وقت الصلاة،
والكحول تباع في عدة مناطق.
الرقة
مدينة متسامحة، بها كنيستين ويعمها الإسلام الصوفي. أما بناياتها فتكثر بها الشرفات
التي تجلس بها النسوة، وأرصفتها تغص بالمارة وكراسي أهل الحي وهم يدخنون النرجيلة،
أعراسها مختلطة تقام في أحواش بيوتها الواسعة.
بعد ذلك قررت الخروج من سوريا تجبناً لاعتقال آخر قد تقوم به الأجهزة الأمنية، ودعت الرقة دون أن يخطر لي أني سوف أصل باريس، متجهاً للعاصمة الأردنية عمان، ومن هناك بقيت أتتبع الأخبار بشكل يومي، حتى تم تحرير الرقة على أيدي أبناءها الذين انخرطوا في الجيش الحر، بعد مرور عام على ذكرى مظاهرتها الكبرى، أي عامين على الثورة السورية.
بعد تحرير
الرقة انتشرت المنظمات المدنية في المدينة بسرعة، أولها تجمع شباب الرقة الحر،
وأخرى كـ ( حركة حقنا ) ومنظمة ( جنى ) النسوية والعديد غيرها، والتي أقامت الكثير
من الأنشطة كحملات تنظيف الشوارع، وإقامة المسابقات وتوزيع الهدايا على الأطفال،
وتلوين الجدران وكتابة شعارات تدعو للحرية والدولة المدنية، أيضاً قامت حركة حقنا بانتخابات
تجريبية للتدريب على مراقبتها، بالإضافة للعديد من الصحف الورقية التي باتت تطبع
وتوزع في المدينة.
كما أنشأت
محكمة شرعية للفصل بين الناس ولضبط المدينة، وكانت أول خطوة خارج سلطة المحكمة من
تنفيذ تنظيم داعش، وكان في حينها الشق العراقي من جبهة النصرة، وأمام تجاوزات الشق
القادم من العراق، ووعود الشق السوري باحترام الأنشطة المدينة، شهدت الثورة
السورية قبل ذلك تغيراً نسبياً في سلوك السلفية الجهادية والتي دعت لاحترام اختلاف
الآخر، على اعتبار أن شيئاً في سوريا المتنوعة لن ينجح دون الأخذ بالاعتبار بهذه
النقطة، الدعوى جاءت على لسان أبو محمد المقدسي أبرز منظري الجهادية السلفية من
سجنه في الأردن وأذاعته قناة الجزيرة على شريطها الإخباري، وبالعودة لعملية
الإعدام الذي نفذه تنظيم داعش في ساحة المدينة دون العودة للهيئة الشرعية، والذي
استهجنه الشباب الناشط، حيث أن الضحايا لم يخضعوا لمحاكمة عادلة ولم يطلع أحد من
الناس على حقيقة التهم الموجهة إليهم، الأمر الذي دفع حركة حقنا للاحتجاج فأقامت
خيمة كبيرة في ساحة الإعدام أسموها خيمة عزاء وطن، وأطلقوا شعار" ساحات الحرية
ليست ساحات للإعدام" وفي تحقيق سابق أجريته صرح أحد أعضاء الحركات المدنية
بأنهم فتحوا خطوط تواصل مع جميع الكتائب المسلحة في المدينة، سواء الجيش الحر، أو
الإسلامية، وبأن الجميع تفاعل معهم باستثناء تنظيم داعش والذي كانت لغته التكفير
والتخوين والقتل والاختطاف، وبدوره كان التنظيم يركز في حملته الدعائية بأن النظام
السوري وأعوانه لا تنفع معهم سوى لغة السلاح، وسرعان ما أصبح أعوان النظام السوري بالنسبة
للتنظيم كل من لا ينضوي تحت رايته.
التنظيم
الذي كان يظهر فجأة ويغيب، شيئاً فشيء أصبح له مقرات واضحة في المدينة، وبدأ يمارس
استفزازاته والتي كان آخرها حرق كنيستي الرقة وكسر صلبانها، وكرد فعل نضم شباب
المدينة الناشط مظاهرة تنديداً بحرق الكنائس، وقاموا بحمل الصليب وأعادوه لداخل
الكنسية، ونظموا العديد من التظاهرات أمام مقار التنظيم تطالبه بالإفراج عن
المختطفين، وكان التنظيم في ذلك الوقت لا زال يدعي أنه لا يقاتل السنة في سوريا.
بعد أن أحكم داعش سيطرته على الرقة قام بفرض الحجاب الكامل على المرأة، ومنعها من الخروج من منزلها، كما هرب بقية الناشطين إلى تركيا أو مدن سورية أخرى، وأصبح الأجانب من الفرنسيين، البلجيكيين، التونسيين، السعوديين، وغيرهم.. يفدون إلى الرقة بالآلاف الأمر الذي أشعر من تبقى بالمدينة باحتلال جديد وقوة قمعية أخرى فرضت سيطرتها على المكان، ومن التفاصيل التي يحكيها لنا أهل الرقة، أن المهاجرين أصبحوا الطبقة الغنية في المدينة في حين يقف الرقاويون أمام المركز الإغاثي ليحصلوا على الطعام، المركز الذي يدعمه أبناء المدينة من الخارج.
اليوم بعد
أن نفذ داعش المجرم العمل الإرهابي الجبان في مدينة باريس، شعرت بالألم على
المدينة التي أعيش بها منذ ما يزيد على العامين، وصدمت وأنا في منزلي عائداً من
أحد مقاهي المدينة، حزنت على الضحايا وسعدت عندما شاهدت سوريين تحت الحصار والقصف متعاطفين مع ضحايا باريس،
منهم من وضع العلم الفرنسي كرمز لصورة حسابه الفيسبوكي، ومنهم ناشطين من مدينة
دوما أشعلوا الشموع من أجل ضحايا باريس بالرغم من الحصار والقصف العنيف الذي
يتعرضون له من قبل نظام الأسد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق